تأملات في مأساة إسطنبول- غدر الإرهاب ووباء الإساءة الإلكترونية.
المؤلف: إبراهيم إسماعيل كتبي08.12.2025

لقد أحزننا بعمق العمل الإرهابي الشنيع الذي استهدف أحد المطاعم في إسطنبول، والذي أودى بحياة عدد من المواطنين السعوديين الأبرياء، وغيرهم من الضحايا، الذين سقطوا ضحية لهذا الخداع الآثم. ومما زاد من ألمنا، هو انزلاق البعض إلى تشويه سمعة الضحايا دون أدنى قدر من العلم أو التحقق، دون أن يرف لهم جفن أمام فظاعة الاعتداء ومأساة الضحايا وعائلاتهم المفجوعة. لقد انغمس هؤلاء السفهاء في الغمز واللمز، وتناسوا بشاعة الجريمة الإرهابية ولحظات الصدمة والرعب التي خلفها هذا العمل الغادر. وبهذه المناسبة الأليمة، نترحم على شهدائنا ونتقدم بأحر التعازي والمواساة إلى أسرهم وذويهم، الذين تلقوا واجب العزاء حضورياً، وشعروا بصدق مشاعر المواساة من أفراد المجتمع كافة، الأمر الذي يعكس المشاركة الوجدانية العميقة والأثر البالغ لهذه اللحظات العصيبة.
في خضم هذه المأساة العظيمة، تطل علينا مأساة أخرى بوجهها القبيح، ففي كل يوم، يصدمنا المحتوى التافه في العالم الافتراضي بسفاهات القول والجهالات والتعصب الأعمى. ويتجلى لنا حجم الإهمال لتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، الذي هو أساس كل فضيلة قولاً وعملاً، والسبيل الأمثل لدرء كل مفسدة، بدءًا من زلة اللسان، وصولاً إلى طيش العقل وضلال الفكر والإفساد في الأرض.
وهكذا، عكست مرآة شبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية قبح النفس وأدرانها لدى بعض الأشخاص ممن أطلقوا العنان لألسنتهم بكلمات خبيثة و جارحة. فالنميمة الإلكترونية أصبحت أسرع من الصاروخ، وأشد فتكًا وتدميرًا للقيم الأخلاقية النبيلة. وهذا ليس بجديد على ما تعج به هذه الوسائل من فوضى عارمة على مدار الساعة، ما بين مُرسل ومتلقٍ، ونشر للإساءات المؤلمة. وأخشى ما أخشاه أن نترحم على القيم والأخلاق الرفيعة، على الرغم من أن النبع الصافي لديننا الحنيف لا يزال بين أيدينا، والذي يحثنا على حسن الخلق والنوايا والظن الحسن بالناس.
وللأسف الشديد، نجد أن البعض ينصب نفسه قاضياً بغير صفة أو منصب أو مسؤولية أو ضمير، ويصدرون أحكاماً قاسية على الناس تبعاً لأهوائهم ورغباتهم الشخصية. ومن ينتقد بغير علم أو حقيقة، يفضحه جهله وتدني أخلاقه. ونجد الكثيرين يندفعون إلى الخوض في كل شيء، من صغائر الأمور إلى عظيمها، والنهش في الأعراض، بدلاً من البحث عما يفيد ويضيف قيمة إيجابية، وتحري الدقة والمصداقية. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت...». فأين هؤلاء من هذا التوجيه النبوي الكريم؟ وهل راجعوا صدق إيمانهم في أقوالهم وأفعالهم؟
إن زلة اللسان أشد وأخطر من عثرة القدم، ولكن كيف يمكن إصلاح سفه العقل وبذاءة اللسان؟ فالكلمة تخرج كالسهم وتصيب من تصيب، والسهم لا يعود أدراجه أبداً. وهذا هو حال الإساءات والشائعات والأقاويل المغرضة التي تنال من سمعة الناس. فأين دور الأسرة في هذا العبث؟ وكيف يغضب الأب والأم من تطاول وتجاوز الأبناء بحقهم، ولا يغضبون إذا تعرضوا بالإساءة للآخرين؟ هذه الازدواجية والإهمال التربوي والغفلة هما التشوه التربوي بعينه، والتدني الأخلاقي بذاته. وللأسف الشديد، هذه الأدران ما فتئت تنهش في استقامة وسلامة منظومة القيم والمبادئ الأصيلة.
في العديد من المجتمعات، بما في ذلك الغرب الذي ننتقده في بعض الجوانب، نجدهم يعاقبون على مثل هذه التجاوزات، حتى لو كانت مجرد كلمة. بينما في مجتمعنا، يطلق البعض العنان لأباطيل وإساءات بأسماء مستعارة وهمية. فالكذب والتطاول وسوء النوايا وسوء القصد أصبحت عند البعض هواية و متعة. لقد أصبحت جرائم السب والقذف والتشهير أكثر انتشاراً من ذي قبل، ويكاد البعض يتنفسها كما يتنفس الهواء، غافلين عن قول الحق تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
وفي الأثر: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). والعقوبات موجودة بالفعل، ولكننا بحاجة ماسة إلى تفعيلها وتطبيقها بحزم، حتى يرتدع المسيء، ونحمي الأخلاق والأعراض من خلال ثقافة القانون والوعي التربوي والدعوي والتعليمي والإعلامي. يجب علينا العمل معاً لكي لا يتآكل النسيج الأخلاقي للأسرة والمجتمع. فهل من صحوة وحراك إيجابي وعقوبات ناجزة ورادعة لتكون عبرة لمن لا يعتبر؟